My Father | كيف نستطيع أن نتحمل رحيل من نحب

My Father
رحيل الوالد

أشعر بالحزن طوال الوقت، لم أعد الشخص نفسه، خسرت نفسي، وكل الأشياء الجيدة، كل السعادة وأي فرح، أكون ساخرًا أحياناً ويظنون إنها مجرد انتكاسة لكنها ليست كذلك.

هكذا أصبحت طوال الوقت، كل شيء مجرد واجهة، لست بخير لكنني أتذكر شعوري الطبيعي لهذا أتظاهر بذلك لكن هذه حقيقتي الآن، وأريد أن أكون طبيعيًا من جديد لكنني ضعيف” ريكي جيرفيه، مسلسل After life.

لقد رحل أبي

حينما اختبرت مشاعر الموت القاسية لأول مرة عندما ودعت أبي لمثواه الأخير، شعرت لأول مرة بقسوة الأيام التي لم أتوقع يومًا أن اتجرع مرارتها.

كدّت أجن وأنا أحاول استيعاب أن هناك شخص ما كان يقضي كل ساعات يومه برفقتي وفي لحظة واحدة فارقة اختفى بلا عودة.

لم أجرب شعور الفقد يومًا فإما كنت طفلة لا تستوعب ما يدور حولها أو لم يهمني الأمر بالقدر الكافي، فلست أنا هذا الشخص العاطفي الذي يتأثر بكل حادثة وفاة تحدث من حولي.

فطالما الأمر كان يحدث خارج نطاق منزلنا إذا لا يهم أي شيء آخر لم أعتقد يومًا أن تشملني دائرة الموت تلك وتخطف فردًا من أفراد عائلتي.

خاصةً أبي، فقد كنت أظن أن الآباء دائمون، سيظلون هنا دائمًا وسنبقى جميعًا معًا إلى أخر تلك الحياة لكني كنت مخطئة.

لازلت أتذكر شعوري عندما سمعت كلمة «لقد رحل أبي» لأول مرة حزن وألم وصدمة وخوف من المجهول، لم أفهم حينها كيف لبضع كلمات صغيرة أن تصبح كمثل قنبلة موقوتة تنسف الحياة السابقة بأكملها، وتشوه أيضًا ما بعدها.

كنت أفكر حينها في تفاصيل لم أعرف حتى إنها مازالت عالقة في خبايا ذاكرتي، كلها كانت تفاصيل يومية «روتينية» وطبيعية، لكنها صارت بعد تلك الجملة «ذكريات تُبكي العين وتُدمي القلب عند تذكُرها».

صوت استدارة المفتاح معلنة وصول أبي إلى المنزل، هرولتنا بعد وصول أبي من عمله ونحن نتسابق لفتح الأكياس واكتشاف محتوياتها، تذوق أبي للطعام قبلنا ليتأكد من نظافته وجودته.

صوته المميز وهو يحاول الوصول إلى أحدنا ليخبره بشيء ما أو يطلب منه أي طلب يومي اعتيادي، جلوسه المستمر على أريكته المفضلة أمام شاشة التلفزيون وهو يُتابع المباريات في حِرص زائد هل كنت أتوقع يومًا أن اشتاق إلى تفاصيل يومية كانت تحدث كل يوم فعليًا؟ أبدًا لا.

هل الموت يُفقدنا أنفسنا أم مَن نُحب؟

عندما يزورك هذا الضيف الثقيل يتغير كل شيء للأبد، تتلاشى الذكريات، يخُفت صوت الضحكات ويرتفع صوت النحيب، تعم الكآبة والرهبة محل الفرح يصبح للحياة صوتًا مبحوحًا بعد أن كانت تُزينها زقزقة العصافير والموسيقى العذبة.

فنحن لا ندفن مَن نُحب فقط إنما ندفن رفقتهم كل شيء يجعلنا أحياء، أرواحنا، مشاعرنا، ذكرياتنا، ضحكاتنا، ولا يتبقى لنا حينها سوى الألم والحزن ولحظات الشجن القاتلة.

ترتفع أرواحهم إلى السماء وتهبط أجسادهم نحو القبور، بينما تهبط أرواحنا معهم وتبقى أجسادنا عالقة، تائهة تبحث دائما عن شيء مفقود لا تدري ما هو ولكنها تعلم أنها تفتقده.

ما جدوى الذكريات طالما لن تدّم طويلاً؟

تهاجمني لحظاتنا السعيدة معًا وأبكي حزنًا عليها، هنا جلسنا سويًا نضحك أمام فيلم شاهدناه كثيرًا، هنا جمعتنا مباراة كرة القدم وجلسنا نُشجع ونحلل ونهتف بحماس.

هنا جلسنا لساعات طويلة نتسامر ونضحك ونفرغ همومنا كل منا في جعبة الأخر حتى تلاشت وكأنها لم تكن .. كانت الحياة بسيطة وهادئة وليتها بقيت كذلك.

صارت تلك اللحظات منذ ذلك اليوم تُحزنني بعد أن كانت مصدر سعادتي، صدقت حينها مقولة أحدهم بأن كل اللحظات سوف تغدو ذكريات أليمة يومًا ما، فالذكريات السعيدة ستصبح خنجرًا يلتهم قلبك عندما يختفي صانعوها من حولك، تفتقدها في البداية.

ثم تحزن لتذكرها، ثم ينفطر قلبك على زوالها، ثم لا وجود لنسمات السعادة فقط حُزن وألم، أما تلك السيئة فلن تنساها أبدًا مهما حييت، ستبقى عالقة داخل عقلك لتُفسد عليك كل لحظات يومك، يزداد ألمك تجاهها يومًا تلو الآخر بل ويُحضر رفقته ضيفًا ثقيلاً يُدعى تأنيب الضمير.

أحياناً كُنت أتمنى لو كانت الذكريات ترحل رفقة أصحابها، تخيل أن تملك القدرة على دفن ذكرياتهم معهم، أن تملك زرًا سحريًا بمجرد أن تضغط عليه تُمحى كافة الذكريات للأبد دون رجعة.

أليس هذا أفضل من أن تُعذبك ذكراهم وذكرياتهم معًا كل ثانية، ما جدوى الذكريات أصلاً طالما رحل أصحابها وتركوها لنا لتعذبنا وتنهش في قلوبنا حزنًا وآلمًا.

مابين الحُلم والواقع يظهر ويختفي أبي

يظهر أبي في أحلامي بين الحين والآخر، نتحدث ونتسامر، يسأل عن أحوالي واسأله عن أحواله، أشعر حينها وكأن الكون يمنحنا بضع لحظات سويًا حتى وإن كانت سرابًا.

سرعان ما أعود للواقع المؤلم لاكتشف خلوه من أبي، أكتشف إنني سأضطر لحضور حفل زفافي بمفردي.

سأتابع أيضاً كل المباريات دون وجوده بجانبي، سأظل أذرف الدموع أمام أفلامنا المفضلة وحدي، ولن يكون بجواري حينما أحرز تقدمًا في مستقبلي.

ليطير فرحًا معي أو أعود خطوات للخلف فيطيب خاطري سأضطر كل يوم أسرق لحظات النوم لأكون بجواره حتى لو لبضع دقائق.

يعتقد الجميع أننا بخير بسبب شدة تقمصنا لدور «أننا بخير»، وعندما نفشل في تخبئه دموعنا أمامهم يستنكرون فعلتنا ويتحدثون عن كيف أن الوقت يداوي الجروح لكنهم لا يفهمون.

لا يعلمون أننا نمر بمراحل الموت كل يوم وفي كل ساعة، ننكر موتهم ولا نصدق أنهم رحلوا تارة، نتقبل الأمر ونشعر بتجاوزنا إياه تارة أخرى.

نمتلك طاقة غضب وحزن كبيرة تُبقينا لأيام طويلة لا نقوى فيها على مواجهة العالم ثم نعود لنفكر ترى هل يمكننا فعل أي شيء في سبيل عودتهم؟ وعندما تصدمنا الإجابة نحزن ونكتئب مرة أخرى.

وماذا بعد؟

أكثر ما كان يشغلني في تلك المرحلة هو «ماذا بعد؟»، أنفض العزاء ورحل الجميع، خذلني البعض بعد أن تعهدوا بالبقاء بجواري والبعض الآخر أبعدتهم دوامة الحياة.

كنت أفكر هل سأظل غارقة في أحزاني لا أقوى على ترك فراشي، يتحرك كل شيء من حولي بينما انا ماكثة في تلك البقعة المظلمة.

وأرفض المضي قدمًا كمثل عجوز مُسنة تعيش على حطام الذكريات، فالموت كما قيل لي «يُصيينا بشيخوخة الحياة» .. أم أن هناك سبيل آخر؟

«الحياة تمضي وتستمر» أعلم إنها جملة «سينمائية قليلاً» لم احبها يومًا لكنها حقيقية حتى وإن كانت قاسية بعض الشيء فالعالم يستمر غير آبه بمشاعرك أو أحزانك.

كل شيء يسير إلى الأمام ولا يتوقف ولو لثانية واحدة وأنت لا تملك سبيلاً للعيش سوى بمواكبة تلك «الحياة».

كانت تلك الجملة رغم قسوتها إلا أنها كانت السبيل الوحيد لأحيا من جديد بعد شهور طويلة قضيتها حبيسة «فقاعة الموت المظلمة» رفقة الألم والحزن ولحظات الشجن والأفكار السوداء حتى كادت أن تبتلعني بداخلها للأبد.

كيف فعلت ذلك صدقني الأمر لم يكن بسيطًا، بدأت باستشارة المتخصصين فهم الوحيدين الذين يملكون حلاً لكل عقدة، وضعوا قدمي على أول الطريق الصحيح، ألقيت بهمومي وأحزاني في جعبة مَن أُحب.

فالحزن كما يقولون يقل حينما يشاركك فيه أحدهم، دفنت نفسي وسط المذاكرة والعمل فوقت الفراغ اللامتناهي هو عدوك اللدود في تلك الفترة، ولم أترك لنفسي أيضاً مجالاً كبيرًا للبقاء بمفردي.

ولا يجب أن تفعل أنت أيضاً فصدقني همومك تلك التي تحاول إبعادها عنك طيلة اليوم ستفترسك بلا رحمة بمجرد بقاءك بمفردك.

الأن مر أكثر من عام على وفاة أبي لازالت أعاني من فقدانه وأتمنى لو استيقظ يومًا لأجده جالسًا على أريكته التي ظل يحتويها لمدة قد تصل إلى أربعون عاماً لكنني بدأت أعي وأفهم قليلاً.

ليس علي نسيانه ولا تجنب ذكراه ولكن تقبل رحيله وفهم أن تلك هي سنة الحياة التي لا نستطيع تغييرها, الآن أستطيع تذكره وقص ذكرياتنا معًا.

بينما ترتسم على وجهي ابتسامة صغيرة حتى وإن كانت تحمل مرارة قاسية خلفها ولكن على الأقل توجد ابتسامة فهذه هي الحياة وهذا هو نحن هنا.

المصدر: Women of Egypt / الكاتبة: سلمى محمود

Post a Comment

2 Comments